اسم الكتاب : كتاب الروضة
اسم الباب :
عن المعصومين عليهم السلام :
من طريق الراوة :
الحديث الشريف :
علي بن الحسين المؤدب ، عن أحمد بن محمد بن خالد ؛ وأحمد بن محمد ، عن علي بن الحسن التيمي جميعا ، عن إسماعيل بن مهران ، قال : حدثني عبد الله بن الحارث ، عن جابر : عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : «خطب أمير المؤمنين عليه السلام الناس بصفين ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على محمد النبي صلى الله عليه وآله ، ثم قال : أما بعد ، فقد جعل الله تعالى لي عليكم حقا بولاية أمركم ومنزلتي التي أنزلني الله ـ عز ذكره ـ بها منكم ، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم ، والحق أجمل الأشياء في التواصف ، وأوسعها في التناصف ، لايجري لأحد إلا جرى عليه ، ولا يجري عليه إلا جرى له ، ولو كان لأحد أن يجري ذلك له ، ولايجري عليه ، لكان ذلك لله ـ عزوجل ـ خالصا دون خلقه ؛ لقدرته على عباده ، ولعدله في كل ما جرت عليه ضروب قضائه ، ولكن جعل حقه على العباد أن يطيعوه ، وجعل كفارتهم عليه بحسن الثواب ، تفضلا منه ، وتطولا بكرمه ، وتوسعا بما هو من المزيد له أهلا . ثم جعل من حقوقه حقوقا فرضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافى في وجوهها ، ويوجب بعضها بعضا ، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض ، فأعظم ما افترض الله ـ تبارك وتعالى ـ من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية ، وحق الرعية على الوالي ، فريضة فرضها الله ـ عزوجل ـ لكل على كل ، فجعلها نظام ألفتهم ، وعزا لدينهم ، وقواما لسير الحق فيهم ، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه ، وأدى إليها الوالي كذلك ، عز الحق بينهم ، فقامت مناهج الدين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على أذلالها السنن ، فصلح بذلك الزمان ، وطاب به العيش ، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليهم ، وعلا الوالي الرعية ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت مطامع الجور ، وكثر الإدغال في الدين ، وتركت معالم السنن ، فعمل بالهوى ، وعطلت الآثار ، وكثرت علل النفوس ، ولا يستوحش لجسيم حد عطل ، ولا لعظيم باطل أثل ، فهنالك تذل الأبرار ، وتعز الأشرار ، وتخرب البلاد ، وتعظم تبعات الله ـ عزوجل ـ عند العباد. فهلم أيها الناس إلى التعاون على طاعة الله ـ عزوجل ـ والقيام بعدله ، والوفاء بعهده ، والإنصاف له في جميع حقه ، فإنه ليس العباد إلى شيء أحوج منهم إلى التناصح في ذلك ، وحسن التعاون عليه ، وليس أحد ـ وإن اشتد على رضا الله حرصه ، وطال في العمل اجتهاده ـ ببالغ حقيقة ما أعطى الله من الحق أهله ، ولكن من واجب حقوق الله ـ عزوجل ـ على العباد النصيحة له بمبلغ جهدهم ، والتعاون على إقامة الحق فيهم . ثم ليس امرؤ ـ وإن عظمت في الحق منزلته ، وجسمت في الحق فضيلته ـ بمستغن عن أن يعان على ما حمله الله ـ عزوجل ـ من حقه ، ولا لامرى مع ذلك خسأت به الأمور واقتحمته العيون بدون ما أن يعين على ذلك ويعان عليه ، وأهل الفضيلة في الحال وأهل النعم العظام أكثر في ذلك حاجة ، وكل في الحاجة إلى الله ـ عزوجل ـ شرع سواء . فأجابه رجل من عسكره لايدرى من هو ، ويقال : إنه لم ير في عسكره قبل ذلك اليوم ولا بعده ، فقام وأحسن الثناء على الله ـ عزوجل ـ بما أبلاهم ، وأعطاهم من واجب حقه عليهم ، والإقرار بكل ما ذكر من تصرف الحالات به و بهم. ثم قال : أنت أميرنا ، ونحن رعيتك ، بك أخرجنا الله ـ عزوجل ـ من الذل ، وبإعزازك أطلق عباده من الغل ، فاختر علينا وأمض اختيارك ، وائتمر فأمض ائتمارك ، فإنك القائل المصدق ، والحاكم الموفق ، والملك المخول ، لانستحل في شيء معصيتك ، ولا نقيس علما بعلمك ، يعظم عندنا في ذلك خطرك ، ويجل عنه في أنفسنا فضلك. فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : إن من حق من عظم جلال الله في نفسه ، وجل موضعه من قلبه ، أن يصغر عنده ـ لعظم ذلك ـ كل ما سواه ، وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ، ولطف إحسانه إليه ، فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا زاد حق الله عليه عظما ، وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر ، ويوضع أمرهم على الكبر ، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء ، ولست بحمد الله كذلك. ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء ، وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء ، فلا تثنوا علي بجميل ثناء ؛ لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها ، وفرائض لابد من إمضائها ، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي لما لا يصلح لي ؛ فإنه من استثقل الحق أن يقال له ، أو العدل أن يعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل عليه ، فلاتكفوا عني مقالة بحق ، أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني ، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لارب غيره ، يملك منا ما لانملك من أنفسنا ، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى ، وأعطانا البصيرة بعد العمى . فأجابه الرجل الذي أجابه من قبل ، فقال : أنت أهل ما قلت ، والله والله فوق ما قلته ، فبلاؤه عندنا ما لايكفر ، وقد حملك الله ـ تبارك وتعالى ـ رعايتنا ، وولاك سياسة أمورنا ، فأصبحت علمنا الذي نهتدي به ، وإمامنا الذي نقتدي به ، وأمرك كله رشد ، وقولك كله أدب ، قد قرت بك في الحياة أعيننا ، وامتلأت من سرور بك قلوبنا ، وتحيرت من صفة ما فيك من بارع الفضل عقولنا ، ولسنا نقول لك : أيها الإمام الصالح تزكية لك ، ولا نجاوز القصد في الثناء عليك ، ولن يكن في أنفسنا طعن على يقينك ، أو غش في دينك ، فنتخوف أن تكون أحدثت بنعمة الله ـ تبارك وتعالى ـ تجبرا ، أو دخلك كبر ، ولكنا نقول لك ما قلنا تقربا إلى الله ـ عزوجل ـ بتوقيرك ، وتوسعا بتفضيلك ، وشكرا بإعظام أمرك ، فانظر لنفسك ولنا ، وآثر أمر الله على نفسك وعلينا ، فنحن طوع فيما أمرتنا ، ننقاد من الأمور مع ذلك فيما ينفعنا. فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : وأنا أستشهدكم عند الله على نفسي ؛ لعلمكم فيما وليت به من أموركم ، وعما قليل يجمعني وإياكم الموقف بين يديه ، والسؤال عما كنا فيه ، ثم يشهد بعضنا على بعض ، فلا تشهدوا اليوم بخلاف ما أنتم شاهدون غدا ، فإن الله ـ عزوجل ـ لايخفى عليه خافية ، ولا يجوز عنده إلا مناصحة الصدور في جميع الأمور. فأجابه الرجل ، ويقال : لم ير الرجل بعد كلامه هذا لأمير المؤمنين عليه السلام ، فأجابه وقد عال الذي في صدره ، فقال والبكاء يقطع منطقه ، وغصص الشجا تكسر صوته إعظاما لخطر مرزئته ، ووحشة من كون فجيعته. فحمد الله وأثنى عليه ، ثم شكا إليه هول ما أشفى عليه من الخطر العظيم ، والذل الطويل في فساد زمانه ، وانقلاب حده ، وانقطاع ما كان من دولته ، ثم نصب المسألة إلى الله ـ عزوجل ـ بالامتنان عليه ، والمدافعة عنه بالتفجع ، وحسن الثناء ، فقال : يا رباني العباد ، ويا سكن البلاد ، أين يقع قولنا من فضلك؟ وأين يبلغ وصفنا من فعلك؟ وأنى نبلغ حقيقة حسن ثنائك ، أو نحصي جميل بلائك؟ فكيف وبك جرت نعم الله علينا ، وعلى يدك اتصلت أسباب الخير إلينا؟ ألم تكن لذل الذليل ملاذا ، وللعصاة الكفار إخوانا ؟ فبمن إلا بأهل بيتك وبك أخرجنا الله ـ عزوجل ـ من فظاعة تلك الخطرات؟ أو بمن فرج عنا غمرات الكربات ؟ و بمن إلا بكم أظهر الله معالم ديننا ، واستصلح ما كان فسد من دنيانا حتى استبان بعد الجور ذكرنا ، وقرت من رخاء العيش أعيننا ؛ لما وليتنا بالإحسان جهدك ، ووفيت لنا بجميع وعدك ، وقمت لنا على جميع عهدك ، فكنت شاهد من غاب منا ، وخلف أهل البيت لنا ، وكنت عز ضعفائنا ، وثمال فقرائنا ، وعماد عظمائنا ، يجمعنا في الأمور عدلك ، ويتسع لنا في الحق تأنيك ، فكنت لنا أنسا إذا رأيناك ، وسكنا إذا ذكرناك ، فأي الخيرات لم تفعل؟ وأي الصالحات لم تعمل؟ ولو لا أن الأمر الذي نخاف عليك منه يبلغ تحريكه جهدنا ، وتقوى لمدافعته طاقتنا ، أو يجوز الفداء عنك منه بأنفسنا ، وبمن نفديه بالنفوس من أبنائنا ، لقدمنا أنفسنا وأبناءنا قبلك ، ولأخطرناها وقل خطرها دونك ، ولقمنا بجهدنا في محاولة من حاولك ، وفي مدافعة من ناواك ، ولكنه سلطان لايحاول ، وعز لايزاول ، ورب لايغالب ، فإن يمنن علينا بعافيتك ، ويترحم علينا ببقائك ، ويتحنن علينا بتفريج هذا من حالك إلى سلامة منك لنا ، وبقاء منك بين أظهرنا ، نحدث لله ـ عزوجل ـ بذلك شكرا نعظمه ، وذكرا نديمه ، ونقسم أنصاف أموالنا صدقات ، وأنصاف رقيقنا عتقاء ، ونحدث له تواضعا في أنفسنا ، ونخشع في جميع أمورنا ، وإن يمض بك إلى الجنان ، ويجري عليك حتم سبيله ، فغير متهم فيك قضاؤه ، ولا مدفوع عنك بلاؤه ، ولا مختلفة مع ذلك قلوبنا بأن اختياره لك ما عنده على ما كنت فيه ، ولكنا نبكي من غير إثم لعز هذا السلطان أن يعود ذليلا ، وللدين والدنيا أكيلا ، فلا نرى لك خلفا نشكو إليه ، ولا نظيرا نأمله ولا نقيمه ». خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام